الجمعة، 13 مارس 2020


 ذكرى في طيّات النُفوس 

لا زالت أطياف تلك الحادثة تجولُ في زوايا رأسي و تعبثُ هنا و هناك، إلا أنّ ذكراها تجاوزت الخمسين عاماً، لكنني أراها بوضوحٍ شديد كأنها شريطٌ يعرض تفاصيلها بكل دقّةٍ تسرق النوم من عينيّ. تلك الأصوات و صراخُ أحدهم يرتجفُ من البُندقية المصوّبة في منتصف جبينه، يا لها من عفاريت لعينةٍ تُتقن كل هذه الأدوار بحذافيرها.   معركةُ الكرامة، أو كما أُطلق عليها " أسطورة القرن العشرين " التي غيّرت مُجريات الأوضاع العربية عامةً و الأردنية على وجه الخصوص. كنتُ آنذاك جندياً وقع تحت الأسر بين يديّ معسكرٍ إسرائيليّ يُدعا " عتْليت "، على حدّ ذاكرتي كان يقبعُ بالقرب من مدينتي حيفا و يافا، و تعرضتُ لجراحةٍ مُستعجلة بعد إصابتي و تمّ اعتقالي شهراً كاملاً.   يمكنني الجزم أنها أسوأ تجربةٍ خضتها أثناء المعركة، فقد ضقتُ ذرعاً من شتّى طُرق التعذيب التي مارسها عليّ العدوّ الأسرائيلي دون رحمةٍ، بل يتفننُ  باقتلاع كرامتنا وهو يسهبُ علينا بوابل من الشتائم و الإهانة، و كلُ ما يريدون معرفته مني و من رفاقي في الحبس هو ما طبيعية الأسلحة التي تمتلكها قواتنا و مدى تطورها ؟ و كيف استطاعتْ سرية الجيش العربي أن تُعيق تقدّم هجوم لواءٍ مدرعٍ قويٍ مرتين؟ .   تجاهلتُ كل هذا الضغط الذي اُلقي على عاتقي و التزمتُ الصمتْ، الى أن  يُثير غضبي أحد جنود العدو وهو يوجّه كلامهُ لنا بسخريةٍ و تعالٍ: ما أنتم إلا مُرتزقة من شرق الأردن، ما لكم تدافعون عن فلسطين بكلّ هذه الهمة ؟
أجبتهُ كالبركان الهائج و بدأت عروق جبيني و رقبتي بالبروز: من ندافعُ عنها هي أرضنا و شعبنا و كل ما عليها من مقدساتٍ تخصنا، لم تكن يوماً تلك الحدود الوهمية فاصلاً بين قلوبنا، و إن كان احدٌ هنا مرتزقٌ فهُم أنتم أيها السُفهاء . ناظرني الجندي بعينين جاحظتين و سألني عن اسمي، فأجبته بكلُ رفعةٍ و شموخ: فرحان بني خالد. ثم خرج وهو يتوعد بعقابٍ شديد يلائم ردّي الذي اندفع كالسهم  و لا يأبه ما العواقب. و عندما حان وقتُ تبادل الأسرى، طلبت إحدى المذيعات من التلفزيون الاسرائيلي الإفصاح عن حقيقة معاملتهم للأسرى، إلا أن رفضهم لم يكُن غريباً عن نواياهم. و في هذه الأثناء تم نقلي  إلى مشفى " ماركا " العسكرية لاستكمال علاجي  وتلقّي الإجراءات الضرورية اللازمة. و لكنني ابتسمتُ ببشاشةٍ حينما سمعتُ بزيارة الأمير حسن لي أثناء تواجدي في المشفى، و رويتُ له كل ما مررتُ به من عقباتٍ أنا و باقي الأسرى، بينما يطالعني هو بنظرة فخرٍ و اعتزاز عالجت جروح روحي.
و مرت الأيام  كالقطار دون توقف و هي تحملُ في ثناياها كل شعور الأمل و الفرحة التي خالطت شعبنا الأردنيّ العريق، مُخلّدةً كل تلك اللحظات الممزوجة بين الخسارة و الانتصار، و الحزن و الابتسام. لا يمكنني إنكار تلك اللحظات العصيبة لكن كما يُقال " الصبرُ مفتاح النجاح "، و يا له من نجاحٍ باهرٍ و زهيدٍ حينما أتذكر دموع الأطفال فرحةً مُكلّلةٌ بالزهور الذي امتزج مع رائحة دماء الشهداء في صمودهم و تضحيتهم السامية رافضين الخضوع لذاك الكيان النكرة.   نظرتُ للساعة و إذ بها تجاوزت الثانية عشر ظُهراً، كيف مضى كل هذا الوقت بالتفكير دون أن انتبه، فأنا على عجلةٍ من أمري لحضور الاحتفال الوطني الذي سيُعقد بعد نصف ساعة، فقد أصبحت أشاركُ بهذه الفعاليات الاجتماعية الكبيرة  للتحدثُ بكل شغفٍ عن كل تلك الذكريات الراسخة في خلايا رأسي و أعشقها حتى النخاع. انتهيتُ  من تجهيز نفسي بثوبٍ علىشكل العلم الأردني و يحمل كل معاني القوة و الاعتزاز، و أمسكت عصاي العزيزة، فقدشهدت معي هذه العصا العتيقة جميع الحروب التي خُضتها و بقيت صامدةً حتى هذه اللحظة،فأنا أجلبها في كل احتفالٍ أو فعاليةٍ أشارك بها كعربون شكرٍ لوجودها بجانبيدائماً، ولم تكن وحدها بل لديّ هذا الخنجرالذي أعتزُ به أيضا. و على حين غرّةٍ علت وجهي ابتسامةٌ مبهمة و غادرت بخُطىً تتحدى الواقع المجهول بما يحمله في جعبته لي. الطالبة : سندس جوارنه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق